مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

في لوكارنو.. قضايا الهجرة والهوية والشباب والبيئة في صدارة الإهتمام

Keystone

فيما تنشغل السينما في العديد من البلدان العربية بصراعاتها الداخلية وتجاذباتها الحزبية المحلية، تتجه السينما الدولية إلى طرح أسئلة الإنسان الكبرى. هذا ما يخرج به المتابع للأعمال الفنية المشاركة والمتنافسة على الفوز بجوائز الدورة الثانية والستين لمهرجان الدولي للأفلام بلوكارنو جنوب سويسرا.

وكالعادة، واصل المهرجان خلال هذه الدورة أيضا انفتاحه على جميع الفنون ومختلف المدارس والتقاليد السينمائية. وحفلت القاعات الموزعة على المدينة وضواحيها في الأيام الماضية بعرض أفلام سويسرية وأخرى جاءت من القارات الخمس.

المهرجان الذي افتتح في الخامس من شهر أغسطس الجاري على إيقاع رذاذ مطر صيفي خفيف، بدأ بعرض فيلمين سويسريين: “المتواطئون” لمخرجه فريديريك مرمود وفيلم “اختفاء جوليات”، لكريستوف شواب، والذي من المنتظر أن تظهر نسخته الفرنسية قريبا.

أما الأفلام الأجنبية، وأغلبها أوروبية وآسيوية، فإنها برغم تباعد انتماءاتها الجغرافية، تكاد تتقاطع عند ثلاثة محاور كبرى، هي الهجرة والهوية والشباب والفراغ النفسي والعلاقة الصعبة والمعقدة بين الإنسان والطبيعة والبيئة عموما. فيما يلي قراءة في بعض هذه الأفلام ورأي مخرجيها.

الهجرة والهوية

يبدو أن التوجه الأوروبي الحثيث والحديث الهادف إلى تشديد قوانين الهجرة واللجوء، وما ينجر عن هذه الخطوة من مآس على المستويين الشخصي والجماعي قد حفّزت السينمائيين للتطرق بكثافة لهذه الظاهرة.

ففي فيلم شيّق يحمل عنوان: “من مكان ما إلى هاهنا”، رافق المخرج السينمائي السويسري فيلّي هيرمان المصوّر أندرياس شيبارت خلال رحلاته الثلاث المتتابعة إلى الصين بين سنتيْ 2006 و2008.

الزيارات الثلاث شملت مناجم الفحم والذهب، ومدنا شهدت في السنوات الأخيرة طفرة اقتصادية ونهضة عمرانية كبرى بفضل سواعد الملايين من المزارعين الذين نزحوا عن أراضيهم بحثا عن فرص العمل وجريا وراء حياة أفضل.

ويقول فيلّي هرمان واصفا هؤلاء العمال الذين نزحوا من ديارهم وفارقوا أهاليهم: “تعلو وجوههم ملامح الإرهاق ويبذلون جهودا مضنية من أجل استعادة نوع من التوازن إلى حياتهم، على الرغم من الاستغلال الذي يلاقون”. وفي لفتة تبدي تعاطفه معهم، يضيف مستدركا: “رغم كل ذلك، تلوح على وجوههم ابتسامة، وتعلوها شهامة وأنفة، افتقدتهما الكثير من المجتمعات الغربية الاستهلاكية”.

أما فيلم ريتشارد ديندو “الحالمون بالذهاب إلى كوكب المريخ”، وهو أحد الأفلام المشاركة ضمن مسابقة “السينمائيون الجدد”، فهو عبارة عن محاولة تهدف إلى القفز على حالة من التجاذب تسود اليوم المجتمعات الصناعية، خاصة الأوروبية منها، بين مهاجرين وافدين وسكان أصليين.

ويرى ريتشارد ديندو في وصول الإنسان إلى كوكب المريخ، الحل الأمثل لهذا التجاذب، وبالنسبة إليه فإنه “إذا ما دخل سكان الأرض في علاقة مع سكان كوكب آخر، فمن شأن ذلك أن يعيد تركيب نظام الكون ويجبر الإنسان على إعادة النظر في كل شيء، ويدخل النسبية على أحكامنا وينفي تمركزنا حول ذواتنا ويدفعنا للإقلاع عن سلوكنا الطفولي، الذي ينظر إلى الكون كأنه مملكة خاصة”.

قلق نفسي وضياع إجتماعي

القلق النفسي وعدم الاستقرار الاجتماعي الذي يعاني منه جيل الشباب في ظل عولمة مستحكمة أصبحت فيها القيم معلبة، وعابرة للقارات كأي منتج آخر كانت محورا للعديد من الأعمال المعروضة في لوكارنو، والأمثلة هنا كثيرة ومتعددة، منها الفيلم الياباني المشارك في المسابقة الدولية “أين أنت؟”، للمخرج ماساهيرو كوباياشي، الذي سبق أن حصل على جائزة السعفة الذهبية في مهرجان كان (بفرنسا) عن شريطه آنذاك “الميلاد الجديد”.

“أين أنت؟”، فيلم حزين، وشاعري في آن واحد، يرسم مسيرة شاب ياباني، تركه المجتمع لنفسه، يعاني من الوحدة والقلق النفسي، بمجرد بلوغه السابعة عشر، فقد عمله في مركز تجاري. وتحت وطأة البطالة، انغلق على نفسه، متهما المجتمع بالتسبب في تلك المعاناة.

خلف هذه المعاناة، يرتسم واقع المجتمع الياباني اليوم بأسره. في هذا البلد الصناعي المتقدم، لا يكاد يمر يوم من دون وقوع إحدى الجرائم المنسوبة إلى مراهقين ارتكبوها ضد أقاربهم أو آباءهم. ويقول ماساهيرو كوباياشي، مخرج الشريط: “في عملي السابق، قدمت المجتمع الياباني من خلال عيون الآباء، واليوم أفعل الأمر نفسه، ولكن من خلال عيون الشباب”.

شريط آخر، ولكن هذه المرة من تركيا، عُرض ضمن مسابقة السينما الجديدة بالمهرجان بعنوان “رجال على الجسر”، يقدم للمشاهد صورة حية من المعاناة اليومية للشبان الأتراك.

وعن السياق الذي ولدت فيه فكرة هذا الفيلم، يقول المخرج أزلي أجشي: “أعبر مرات عديدة خلال اليوم جسر البوسفور الرابط بين الشق الأوروبي والشق الشرقي من مدينة إستانبول، ولأن الحركة على الجسر بطيئة، شغلت نفسي بتصوير الباعة غير الشرعيين على جانبي الطريق، بائعو الورد والموز والماء، والخبز…المتنافسون على مداخيل زهيدة”.

وبعد تأمل، يضيف المخرج: “بدا لي أن هذه الظاهرة ليست إلا صورة مصغّرة للمجتمع الأهلي التركي، وللعلاقة بين فئاته المجتمعية المختلفة”. ويكتشف المشاهد بعد عرض الفيلم أن ما يشغل جيل الشباب في تركيا اليوم هو الخوف من المستقبل، والصعوبة في الحصول على المال، فضلا عن تزايد المشاعر القومية، وتمسكهم بتاريخهم العثماني.

وبالعودة مجددا إلى سويسرا مع فيلم “المتواطئون”، وهو الوحيد من سويسرا الذي يشارك في المسابقة الدولية في الدورة 62 لمهرجان لوكارنو للمخرج فريديريك مرمود وبغض النظر عن ردود الفعل المتباينة (وهي ظاهرة طبيعية بالنظر إلى العمق الذي تناول به المخرج مشكلات الشباب في المجتمع الغربي المعاصر، التي تعود بحسب سيناريو الفيلم إلى غياب الأولياء، وغلبتهم على أمرهم، أمام شباب جعلوا ديدنهم الإدمان على كل ممنوع، وتجريب كل محظور، يعرّضون أنفسهم لكل الأخطار، دون إعمال عقل أو تفكير)، ودون السقوط في النزعة الأخلاقية، استطاع المخرج السويسري في ما يبدو وضع الأصبع على أوجاع مجتمع فقدت فيه العائلة دورها في التوجيه والإرشاد، وانتفت فيه (أو تكاد) سلطة الأعراف والقيم.

ورغم المصير المؤلم الذي لقيه الشاب، والغموض الذي ظل يلف مصير الفتاة، وهما الشخصيتان المحوريتان في الشريط، يقول المخرج ميرمود: “لم يكن غرض الفيلم عرض مشاهد مفزعة وعنيفة، بل التركيز على التجربة الإنسانية التي أحاطت بالعلاقة العاطفية بين الشاب والفتاة”.

نهاية العالم أم نهاية عالم؟

أما المحور الثالث والذي يكشف إلى أي حد استطاع الفن السابع تمثيل هموم المجتمع وانشغالاته، فهو الإهتمام المتزايد بقضايا البيئة مثلما جاء في الفيلم الوثائقي الذي يحمل عنوان “الجنة الضائعة” الذي يصوّر الكارثة الصحية والبيئية بمنطقة غويانا الفرنسية، حيث تعيش قبيلة فاياناس حياة هادئة، إلى حين غزا أراضيها المتعطشون إلى الذهب والمعادن الثمينة، دون أي مراعاة لحياة الأهالي والبيئة.

وبمرور الأيام، ترتفع نسبة تلوث المياه بسبب المواد الكيماوية المستخدمة في إستخراج الذهب واستخلاصه، فتسوء الأوضاع الصحية للسكان وتكثر حالات التشوّهات الخلقية لدى الأطفال والمواليد الجدد وتدمر الثروة السمكية، وما بقي منها لم يعد صالحا للإستهلاك البشري.

عمل وثائقي آخر ـ لا يقل أهمية – يقدمه في لوكارنو الفرنسي دومينيك مارشي، الذي تجوّل عبر المناطق الفرنسية المختلفة ليستمع إلى المزارعين والمهندسين الفلاحيين، وإلى الكتاب وأنصار البيئة، ليجعل من شريطه دعوة إلى التأمل والتفكير في الطريقة التي يعامل بها الإنسان البيئة.

وعن جمعه داخل الشريط الواحد بين صوت المزارعين وأصوات الكتاب والمفكرين، يقول دومنيك مارشي: “أردت أن أؤكد على أن الحفاظ على البيئة لا يتطلب التأكيد على المبادئ، كما يفعل أي مفكرّ، بل يستوجب عملا ميدانيا ويوميا من طرف المزارع والمنتج، وكذلك أردت أن أشدد على أن عملية تعبئة الرأي العام من أجل البيئة، لا يجب أن تُغفل أي فئة”.

وبالرغم من أهمية هذه الأعمال، يعترف مخرج فيلم “الجنة الضائعة” أن دور الفن السابع يتوقف عند التحسيس والتوعية بهذه القضايا وخلق رأي عام ضاغط، أما تغيير هذه الأوضاع، فهو يظل دائما بيد أصحاب القرار.

عبد الحفيظ العبدلي – لوكارنو – swissinfo.ch

خُـصِّـص يوم الأربعاء 12 أغسطس للاحتفاء بالسينما السويسرية.

يُـنظم هذا اليوم، بالاشتراك بين المكتب الفدرالي للثقافة والمهرجان الدولي للفيلم في لوكارنو ومؤسسة الأفلام السويسرية Swiss Films، وهي الوكالة المعنية بالترويج للسينما السويسرية.

هذا العام، يتركّـز الاهتمام في هذا اليوم على مِـحور “مئوية موسيقى الأفلام”.

المائدة المستديرة التقليدية، ستهتمّ هذا العام بقضية الرعاية الثقافية في أوقات الأزمة.

في هذه المناسبة، سيتِـم عرض العديد من الأفلام والأشرطة الوثائقية السويسرية، ومنها بالخصوص “وادي الظلال”، وهو إنتاج مشترك سويسري – مجري، من إخراج Mihàly Györik، وذلك في عرض عالمي أول على الشاشة العملاقة في الساحة الكُـبرى.

قراءة معمّقة

الأكثر مناقشة

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية